من كتاب ألوان
ادهم عادل
برقت السماء،هبط الضوء مسرعاً بصورةٍ
عمودية يدوي مرعدا كوحش سقط من الجحيم.ضرب شجرة على قمة جبل فشقها نصفين،وما أن
خمدت النار،وهدأت الشجرة بأغصانها المتغضنة،وساد في الجو ذلك الصمت الرهيب الذي
يتلو الكوارث،حتى خرج من منتصف الشجرة رأس كبير قمحي اللون،غاضب الملامح،ذو لحية
بيضاء مسترسلة إلى الأسفل وعينين واسعتين بمحجرين مكتحلين.نزع الشجرة عنه كمن
ينزع(روبًا )بكمين طويلين ثم وثب بعيداً عن الجذر،ليظهر تحت ضوء القمر قوام نحيل
لا يرتدي شيئاً.نظر حوله فوجد فروًا أسودًا لخروف نافق كبير،لفه حول جسده كرداء
وهبط الجبل مسرعًا.وصل صباحًا إلى قرية نائية،أكواخها بُنيت على الأشجار وساكنوها
يرتدون العظام. وقف على ربوةٍ صغيرة وهتف:
-أيها الناس،جئتكم كي أنقذكم مما أنتم فيه من
الضلال والجهل والظلم والجشع.
-لم يعد في هذه القرية أحد يؤمن بالغيب.
قالها صوت من خلفه. التفت إلى مصدر الصوت
فوجد شيخاً كسيحاً يحمله أربعة أطفال على سريرٍ من خشب.
-ولمَ ذلك؟
سأل الرجل وقد اتسعت عيناه،فرد الشيخ
بصوتٍ بحه الزمن:
-لأنهم فقدوا أطفالهم بسبب المجاعة،أترى تلك
العظام التي يرتدونها كأثواب،هذه أطفالهم الجياع،عندما بدأت المجاعة قال لهم عراف
يدعي معرفة السماء،بأن يُضحوا بالأمهات كي ينقذوا الأطفال،ذبحوا الأمهات جميعهن في
ليلة ظلماء خالية من البدر ثم بعدها بأيامٍ قليلة مات الأطفال جميعاً،هجروا
أعمالهم، حرقوا بيوتهم،خلعوا ملابسهم،أرتدوا عظام أطفالهم الموتى وسكنوا الأشجار
وحيدين مع القردة والحشرات.نظر إليهم بحزن كبير وترك الكسيح وغادر بهمة عالية لم
تُهزم.وصل إلى قرية أخرى كانت تتوسط الغابة كواحة تتوسط الصحراء،خالية من البيوت
تماما،لايوجد فيها سوى عشرة رجال راكعين أسفل شجرة سنديان ضخمة.أصدرت الأوراق
خشخشة أقدامه الثقيلة حين أقترب منهم،لم يلتفتوا إليه،تخلص من لهاثه،نظر إليهم
بحدة وقال:
-جئتُ لإنقاذكم.
-ممَ؟
تساءل صوت أجش من فوق غصنٍ كثيف الأوراق
لم يُميز له شكلاً.
-من جهلكم.
أجاب بارتباكٍ ملحوظ.
-وما هو جهلنا؟
زاد الصوت الذي خلف الأغصان حدة،نظر رجل
السماء إلى الراكعين مخاطبًا إياهم بصوتٍ أرتفع بوضوحٍ وثقة:
-ما لكم تقدسون هذه الأغصان المورقة؟! إنها
مجرد شجرة.
وقبل أن يتبين أي رد فعل عليهم،أجابه
الصوت مرة أخرى:
-أنا أعطيهم الظلال،فماذا تعطيهم أنت؟
-أنا أعطيهم النجاة.
-وأين كانت هذه النجاة عندما أحترقت جميع
حقولنا فلم يبقَ لنا ما نقتات به سوى التراب الأسود.
قال هذه الجملة رجل منهم واستقام من
ركوعه،فظهر بوجه محترق تماماً.أطرق ثم أكمل:
-أرحل أيها المرسل،فكما ترى لم تترك النار
فينا رجلاً ذا وجهٍ سليم كي يتبعك!
تركهم راكعين،ورحل بروحٍ قلت عزيمتها عن
تلك التي هبط بها من الجبل واتخذ طريقاً وعرًا طويلاً ملتوياً ليصل إلى تل صغير من
الحلي والأساور والتيجان والخواتم الذهبية المرصعة بالعاج والزمرد.
عبره بنظرة استفهامٍ كبيرة ودخل على
قبيلةٍ كاملة من العراة .. أجسادهم تعظمت من الجوع وأفواههم تفطرت من العطش.تجمعوا
حلوله يهمهمون كموتى يسيرون على قدمين ثم
اصطفوا بالطوابير إلى قسمين كي يفتحوا له
طريقاً يؤدي إلى خيمةٍ كبيرة يجلس في مقدمتها رجل بشع بلا رقبة،يرتدي من الجواهر
ما لا يستطيع الثور حمله،أصلع الرأس،يضع في أنفه قرطًا فضيا ضخماً ويقف خلفه جنود
يرتدون الأقنعة.. وقف أمامهم وقبل أن يفتح فمه،خاطبه أحد الجنود قائلاً ومُشيراً
إلى سيده الضخم:
-أنت في حضرة رسول السماء!،تبرع بكل شيء
تملكه كي يبارك لك جسدك الفاني.
تنفس بقوة وتحضر كمن يريد قول شيئاً ولكن
الرجل البشع ذا القرط،صرخ مُشيراً بسبابته نحوه بصوت خامل ثقيل:
-جردوه من كل شيء.
قفز الجنود عليه بخناجرهم ليفترسوه،ولكنه
وثب بخطى واسعة هارباً،أختلط بالأقوام العارية ،دفعهم خلفه كسد ولاذ
بالفرار..أتعبه المسير يومين كاملين فجلس على الأرض سانداً ظهره لصخرةٍ سوداء
صقيلة الملمس..
قال له شخص خرج برأسه من حفرة:
-هل أنت ذاهب إلى قريتي؟
-ربما،فأنا سأجول الأرض بما عليها.
رد المرسل بثباتٍ يليق بمن قدم من السماء.
-إذاً،هل لك أن تأخذ هذه القلادة لزوجتي؟ لقد
وعدتها أن أرجع بأقرب وقت،ولكنني كما ترى لا أستطيع أن الوفاء بوعدي بعد الآن.
رمى له القلادة بفمه كأفعى نفث سمها ورجع
إلى باطن الأرض ليموت مجدداً،كانت قلادة صغيرة من الجلد،بتميمة لعظمٍ صغير من
الماعز تحفظ الأرواح من الموت!.وصل إلى قريةٍ كبيرة جداً،في وسطها نار لا تخمد
وحولها تجمع عدد مهول من النساء،بوجوهٍ دامية الأعين،ورؤوس حليقة الجدائل،وأطراف
منزوعة الأظافر،وسيقان هجرت الحجول،يدرن حول نار عظيمة بلا ملل كالطواحين،يرددن
كلمات التقديس والتبجيل والرحمة والتوسل.وقف خلفهن،فصرخت طفلة لم يعرف لها مكان:
-لقد عادوا.
استدارت النساء دفعة واحدة وصمت الكون
بأكمله كأنه يحتضر..اقتربت فتاة سمراء كالشمس،ذات عينين واسعتين،وشفتين
رقيقتين،وأنف رقيق صغير.بقايا شعر تقولL كان هنا شلال أسود لامع ينزل على كتفين
عريضين،في أسفلهما يلتقي قمران غطى جلد الماعز الذي ترتديه بريقهما ولكنه لم يستطع
أن يخفيهما تماماً. )تمسك بيمينها طفلة في العاشرة من عمرها.. قالت له بصوتٍ
مرتبك:
-هل عادوا معك؟!
-ومن هم؟!
أجابها وهو ينظر إلى الفتاة.
-أزواجنا الذين رحلوا لنصرة السماء.
أجابته وقد أختنق صوتها.
-عذراً ولكني لم أفهم ،أنا مرسل من …
وقبل أن يُكمل،قاطعته بصوت متوسل:
-قبل فترة طويلة،جاءنا رجل يقول أنه قد هبط
من السماء،وقد أتى كي نقف معه في محاربة الأعداء الظالمين،فأخذ جميع رجالنا ووعدنا
بأن يعودوا مؤزرين بالنصر بعد عدة شهور،كان هذا قبل عشر سنوات.
نظر إلى طفلتها الصغيرة فرأى في عنقها
قلادة مُشابهة تماماً للتي معه،خفق قلبه الصغير وأخرج القلادة من صدره بيدٍ ترتجف
فهرعت إليه أمها وفي يدها ابنتها وخطفتها من يده صارخة:
-هذه لزوجي،لقد وعدني أنه سيرجع قريباً،إنه
حي،ألم أقل لك أن أباك حي؟!شكراً للسماء.احتضنت صغيرتها وفاضت الدموع من
المقل،لحظات ثم التفتت إليه باسمة:
-أين هو الآن؟أرجوك قل لي بسرعة،هل هو في
طريق العودة؟!
نظر إلى الطفلة الصغيرة فوجدتها مبتسمة
فقال بانكسار
-نعم إنهم في الطريق إليكن.
ارتجت القرية بالزغاريد،وتعالت الأصوات
بالتهليل والتكبير،وبكين الزوجات أمام النار،ورقص الأطفال خلفهن بسعادة وحبور،أما
هو فقد أخفى دمعة ثقيلة كجبل وهم بالرحيل،إذ لم يستطع تحمل فكرة أن يكون الرسول
كاذباً!..
رجع بقدمين ثقيلتين من الذنب،نظر إلى
السماء في الظهيرة،أراد أن يقول شيئاً،كانت الشمس لاهبة،فلم يستطع الصمود
طويلاً،أنزل رأسه وأكمل المسير وحيداً صامتاً.. في طريقه رأى طفلاً خائفاً يركض
إليه مسرعاً ،فاحتضنه وهو يبكي صارخاً:
-أنقذني يا سيدي أرجوك.
ظهر خلفه أربعة فرسان بسيوفٍ طويلة،قال
كبيرهم:
-سلمني هذا الجاحد سليل الكافرين.
-ولكن ماذا فعل؟
قال وضم الطفل خلفه
-لقد تنكر لكبير قومنا المقدس!
وقبل أن يرد بحرف قفز الطفل من خلفه كي
يهرب فوثب عليه أحد الفرسان بسيفه ليذبحه من العنق ويتركه صريعاً بين يديه،رجع إلى
قمة جبله بلحيةٍ ابتلت بالدمع والحزن وقلب تمزق لشدة الندم والفشل،وروح تكسرت تحت
حطام اليأس والشك..
مسح على الشجرة،أعاد تكوين أوراقها،وحد نصفيها،أرجع
الفرو الأسود إلى الأرض،تعرى تماماً،رفع وجهه إلى السماء وفتح ذراعيه كي يعود به
البرق من جديد.
تعليقات
إرسال تعليق