القائمة الرئيسية

الصفحات

 


من كتاب ألوان

ادهم عادل

 

في عام 3000 للميلاد،وبعد سنوات طويلة من الحروب العالمية والأهلية والدينية.وبعد أن غضبت السماء فضربت المياه بنيازك من الجحيم المنتقم،جاءت بالتزامن مع صواعق وبراكين وأعاصير وعواصف وأمراض ومجاعات لم تهدأ لقرون،انتهت البشرية على الأرض تقريبًا واختفت جميع القارات بساكنيها ويبست جميع المحيطات فأصبحت وديانًا مرعبة وعميقة،ولم يبقَ الآن إلا أشخاص يعيشون في كهف كبير تحت الأرض،حفره نيزك منذ قرن.

كانوا مائة فقط،يرتدون الجلد،يتسلحون بالصخور،يتوسدون الأذرع،ويأكلون العشب من مرعى أخضر صغير،تكون بمحاذاة بركة مياه راكدة.كانوا بلا أسماء ولا لغة،يتكلمون بالإشارات ويكنون  بعضهم بالأرقام.ثمانون رجلًا وخمس عشر امرأة وخمسة أطفال،هذا ما تبقى من البشرية كلها!..لم يكونوا بحاجة للغة كي يدركوا أنهم آخر ما تبقى على هذه الأرض،وأنهم آخر أمل في تكوين البشرية من جديد.لذا آصروا بعضهم البعض كالعناقيد وتشبثوا بالحياة بما تبقى لديهم من مخالب وتعاهدوا على البقاء معًا كي ينقذوا هذا الكوكب البائس.يخرجون كل صباح للمرعى،يجترون العشب كالغنم ويتمرغون قرب المياه كالكلاب ثم يعدون عند الغروب كي يهجعوا في الكهف كالخفافيش.ذات يوم وبعد أن رجع الجميع.وبدأوا بعد أنفسهم كي يتأكدوا من تعدادهم كما العادة فوجئوا بأن الرقم تسعة غير موجود..

(أين أختفى الرقم تسعة ؟!..)

اتسعت الأحداق ريبةً واهتزت الأرواح خوفاً وبدا على وجوههم قلق واضح حقيقي لهذا الاختفاء الغريب،إذ لم يغب أحد عنهم طوال فترة وجودهم معاً،بعد ساعات من الصمت اليائس الممل،دخل عليهم الرقم تسعة بثغرٍ باسم وجبين متعرق.وقف أمامهم كتمثالٍ نحيل وقبل أن يُشير إليه أحد بإصبع اتهام صغير،فتح يديه كمن يريد أن يدعو كتلك الأقوام التي كانت تؤمن بالسماء قبل الفناء،وتلاها بابتسامةٍ عريضة لم تخل من بلاهة لتكشف يداه عن قلادةٍ فضية اللون،بسوارٍ جلدي يتوسطها قلب كبير صدئ الحواف،نظر الجميع إلى القلادة بشغفٍ وذهولٍ كبيرين.ثم تقدم رجل عظيم الهيئة،ضخم الجثة،أشيب الشعر،بدا من لحيته وتجاعيده أنه أكبرهم عمرًا،كان يدعى الرقم مائة،نظر إليه غاضبًا كمن يقول أين كنت،لم يرد الرقم تسعة سوى بأن رفع يديه ليريه القلادة.تغيرت الأيام بعدها،أصبح الرقم تسعة محط أنظار الجميع واكتسب اهمية جديدة فريدة وواسعة.أصبح الرجل الوحيد الذي تتهافت عليه الأعين أينما حل أو ذهب..الجميع يريد مصاحبته،ويتمنى أن يتقرب إليه،كما يفتخر بمعرفته له،إنه الرجل ذو القلادة الفضية،سعيد الحظ من يضحك معه وأسعد حظا من يرافقه إلى العشب فجرًا،أما الأسعد حظا بين البشرية كلها فهو من يجعله يلمسها،وهذا لا يحدث إلا نادرًا..تصارعت النساء على قلتهن لكسب وده وقلبه وقلادته،فواحدة تتعرى أمامه،وأخرى تغمزه بعينها،وثالثة تغريه بنهديها البارزين المتضخمين،أما الأكثر جرأة فكانت  تلك التي هجمت عليه وهو نائم!..سرت بين الرجال غيرة كالسم وتجلت في أعينهم نظرات كره وحقد وحسد خبيث.واستعدت أرواحهم بشر مضمور وعنف قادم.ثم انقسموا إلى أكثر من معسكر.الكبير صاحب الرقم مائة ومعه عدد من الأرقام المؤيدة يرى أن القلادة بدعة ويجب أن تُرمى في البركة.وآخرون يقودهم الرقم عشرة يعارضون ويؤمنون بالحرية وبحقه في ملكيته الخاصة،أما البقية فقد كانوا على الحياد..وهكذا انقسم الكهف لأول مرة في تاريخه.تشاجر ذات صباح رجلان،أحدهما يحب صاحب القلادة والآخر يبغضه.تنامى الشجار وتسامى كالبخار إلى أن وصل ذروته فقام المحب بقتل المبغض بعد أن سحق جمجمته بصخرةٍ عظيمة.عُقدت محكمة ببشرٍ عُراة إلا من جلد الحيوانات الذي يغطي عوراتهم وأصدر الرقم مائة قرارًا بوجوب التخلص من القلادة فورًا.رفض الرجل رقم تسعة تسليم قلادته وقاوم بقية الأرقام بقوة حتى قتل واحدًا منهم فأصدر عليه عقوبة الإعدام وحدث ذلك بأن جروه  إلى البركة وجلس فوقه أربعة أشداء ليموت غرقًا.بعدها أُخذت القلادة وسُلمت إلى الزعيم رقم مائة،ليتخلص منها ويُنهي شرها الآثم.كانت الصدمة مُفجعة كجنازة عندما أطل عليهم الزعيم في اليوم التالي وهو يرتدي القلادة على صدره كعروس.بعد ليلتين قُتل الزعيم واختفت القلادة..وُجهت الاتهامات لبعضهم البعض وبدأ الشك يتوغل إليهم كعاصفة.وتشكلت مجاميع كثيرة من المعارضين والمؤيدين والطامعين والحاقدين والحاسدين،فانقسموا وتعصبوا وتحزبوا واختلفوا وتناحروا وتقاتلوا وتذابحوا وأنهوا بعضهم بعضًا.بعد أشهر قليلة،ظهر طفل وحيد يبكي في كهفٍ وبين يديه قلادة صغيرة فضية اللون،صدئة الأطراف،قضت على آخر ما تبقى من البشرية!..

تعليقات